كانت فرحاً .. أذكرها كثيراً هذه الأيام ..
رفيقة الطفولة عراقيَّة ..
رافقتنا في زمن الأدراج والطبشور ..
زمن كتابة أبحاث العلوم والعربي والتربية الاسلامية من سطور ما
يتيسر من كتب أو موسوعات ..
لم تكن فنون بحث بضغطة على " جوجل " موجودة بتقاسيم
عمرنا ..
لا يعني هذا أننا من عصور مضى عليها الزمن !! في التسعينيات من
القرن الهارب بخيبته للماضي كان الانترنت نادراً مقتصراً على طلبة الجامعات
محصوراً ببعض الاختصاصات ..
المهم ..
لن أقول أن فرح كانت لمعة الذكاء في الصف، والتميُّز اللافت
والمُنافس بين الشُعب ..
رغم أنها كذلك ..
لن أتحدث عن طول قامتها وتحايلها على مربية الصف لتجلس بالدرج
الأول معي " أنا ذات القامة القصيرة ! " ..
أذكرُ فرحها المُفرِط ..
وحيدة لوالدتها ! .. و والدها شهيد .. ~
كانت تكفيني هذه الكلمة لانتبه لكل تفاصيل روحها .. أنني بالقرب من
عالم الشهيد ..
فرح أتت الأردن كغيرها ..
لم انتبه لتفاصيل السياسة المزعجة بتلك الأيام .. لكن كان يكفيني
أن اصيب أي شكلٍ من الظلم بلعنة ودعاء بصلاة كلما رأيت مغتربًا عن وطنه !
لم تشتكي غربتها ..
كانت حديث بغداد ..
الصورة المتيقظة لخُضرة بغداد .. أمام كل بيت نخلها وزرعها واكتفاء
الروح بما وهب الله جنتهُ في الأرض ..
كانت تحدِّثُ الكون عن العلوم لديهم ..
مدارسهم وطلابهم ومعلماتها .. لم تشتكي من حال وجدته في ديار
غربتها .. كانت متصالِحة مع الاغتراب لأنها تردد أنها عائدة ،، وهنا هي للمستقبل
هناك تكون ..
حتى والدها ... كيف أين استشهد ... ؟ تكتفي بالابتسام وتقول شهيد ... !
فلسطين .. كانت تعرفُها أكثر مني !!
تعرفُها بتفاصيل تأريخ الاحتلال والمجازر .. تعرف بعض مدنها
الرئيسة ..
حينما سألتني من أي فلسطين أنا .. أجبتها وبداخلي شكوك أن تعرف
نابلس .. أجابتني الكنافة والصابون النابلسي !!!
إذن تعرفُ كذلك تفاصيلنا هناك ..
كانت تجتهد بموسوعية عقلها وحديثها وبحثها ..
نهِمة للمعرفة والقراءة ....
خجولة حين انتهاء من حديث مثير بحماستها .. تواضع النخيل حينَ وقعِ
الرُطب للجائعين والطفولة ...
ربما الوحيدة تقريباً التي لم أُنافِسها بتلك المرحلة من الدراسة ..
كُنتُ أتعلمُ منها فيضاً ..
فرح طفلة .. لكنّها جُندية ..
انضباطها في الطابور الصباحي كغيرها من طلاب جيلي في تلكِ السنين ..
رغم امتعاض وجوهنا البريئة وقلوبنا مما يكون في الصباح من نشيد لا
نفهمه .. لكن حين مجيء لحظة موطني .. تتبدل وجوهنا وتهتز الرؤوس يميناً وأخرى
يساراً .. نشوة بوطن لا نعرفه ولا يعرفنا ..
فرح المتوثبة ..
سوية كنا نلعبُ لعبة الريشة الطائرة .. رغم اختلاف شاسع بين قامتي
وقامتها .. كانت تستمر باتقان وتميز ..
تنس الطاولة !! كرة السلة التي أخفقنا بتعلم أساسياتها ..
فرح التي علمتني طريقة مختصرة لرسم المثلث .. و صبرت علي لاستيعاب
شرح الدورة الدموية الصغرى والكبرى والفرق بينهما .. و التي علمتني أن الرسم روح
وهدوء قبل خطٍ أتخذهُ عياناً على ورقة ..
فرح .. التي تهزُ أبيات الشعر صباحاً في الإذاعة المدرسية ولا
أفهمها لجزالة الفُصحى بلغتها .. لكن كانت ماجدة الحروف والإلقاء ..
فرح .. كانت العراق بيننا .. وبغداد بيننا .. والنخيل وكل ذرات رمل
الزمان ..
كانت بيننا ..
ثم فجأة كانت عودتها ...
بكاؤها حين وداع ... كان عراق جميلٌ بالصخب والسكون والقوة .. كانت
ضمة وطن لكلِ من فقد وطن !
لا أدري لمَ حضورها يكون بهذا العصف في ذاكرتي كل عامٍ حين ذكرى
احتلال بغداد ..
!
لماذا تأتيني بطيفها رغم انقطاع أخبارها .. !
أتكون ببغداد وترسُم ما علمتني إياه .. !
أتكون شهيدة .. !
لا أنفكُّ عن الربطِ بين الجنون بحب الوطن والشهادة ..
كانت تليقُ بحب الوطن ويليقُ بها العراق وبسواد عينين صفاؤها
مُربِك للظلم ...
كانت تليقُ بالجنون لغة وفعلاً ..
أتُراها شهيدة !
لو أنَّ لي قريباً ... بلحظة مع فرح !
عودي يا بغداد .. ليعود الفرح ..!